par Elala Kairouan Tunisie, lundi 16 novembre 2009, 12:08
اسم البرنامج: روافد
مقدم البرنامج: أحمد علي الزين
تاريخ الحلقة: الجمعة 21/5/2009
ضيف الحلقة: الحبيب السالمي (روائي)
أحمد علي الزين: هذا المشّاء موزع بين مطرحين، بين ذاكرتين، هنا وهناك كما يقول عن نفسه، هنا في باريس منذ حوالي ربع قرن، وهناك في العلا حيث ولد قرية من قرى القيروان في تونس، هو مغرم بالذهاب والإياب ولو في الخيال، هي الحياة على هذا النحو مجيء ورحيل. اختار هذا الفضاء الباريسي للعيش والكتابة. ففي هذه المدينة تختبر الذات وتكتشف ملامح جديدة لحضورك وتعرف معنى آخر لفرديتك وتكتشف الآخر أيضاً. باريس مختبر لامتحان الذات، لعلاقتها بالآخر، بالجماعة، بالذاكرة، بالحاضر، على كل حال هي ليست بحاجة لوصف أو مديح، هي مدينة تحتاجها لأنها تمنحك هذا الشعور بحضورك إنساناً ترى إلى ذاتك في مرآة الآخرين، وما أن تأتيها حتى تسلّمك لنفسك في فضائها الفسيح فتتدرب على الاكتشاف والاختلاف والإصغاء والتعدد.
السؤال الملح يتعلق بالديمقراطية
أحمد علي الزين: طبعاً أنت مقيم في باريس منذ سنوات. شو السؤال اللي بتطرحه على نفسك الآن كمثقف كاتب وروائي أمام المشهد العربي العام اللي نعيشه حالياً أو نشاهده وعم نعيش تفاصيله؟ ما هو السؤال الأكثر إلحاحاً اللي بتحسّه واللي بتفتكر فيه بين حين وآخر؟
الحبيب السالمي: والله السؤال الذي أطرحه دائماً يتعلق بالديمقراطية. بصدق يعني. يعني متى سنتبنى النهج الديمقراطي؟ لأني شخصياً لا أعتقد أن الديمقراطية هي الحل لكل شيء، ولكن الديمقراطية هي بداية كل الحلول. يعني لا نستطيع أن نبني شيئاً برأيي بدون الديمقراطية. قد نمر بمرحلة صعبة بعد إرساء الديمقراطي، قد نواجه مشكلات وهذا شيء طبيعي، لكن برأيي لا بد أن نمر عبر هذا الطريق، كل الناس مروا من هنا..
أحمد علي الزين: الطريق الوحيد للخلاص يمكن.
الحبيب السالمي: أعتقد، أعتقد، لا يجوز في بدايات الألف الثالث يعني أن تكون المنطقة العربية برمتها تقريباً خارج هذا السؤال الكبير اللي هو سؤال الديمقراطية.
أحمد علي الزين: حبيب السالمي التقيته هنا ليصطحبني إلى كتابه، إلى نصوصه، إلى زيتونته الدهرية، وإلى قريته ذهاباً وإياباً، إلى أسرار عبد الله واحدة من رواياته، إلى عشاق بيا، وروائح ماري كلير، إلى أحوال المهاجرين في ضواحي باريس، وإلى أحواله كاتباً وروائياً وإنساناً. طيب دائماً أوروبا تشهد هيك نوعاً من خلينا نسميها نوعاً من الاحتجاجات اللي تؤدي أحياناً وتوصل أحياناً للشغب الاحتجاج العنيف مثلما شهدت باريس في فترة، ويبدو وراء هذا الاحتجاج معظم الناس أو الغالبية هم من أصول عربية ومغربية وتونسية يعني من عالمنا، بتقديرك شو السر أن هودي هؤلاء هم بالواجهة دائماً حتى يقوموا بهذه الأعمال، أعمال الشغب أو الاحتجاج؟
الحبيب السالمي: هناك سبب بسيط وهو أنهم غير راضين عن حياتهم.
أحمد علي الزين: في المجتمعات اللي اختاروها.
الحبيب السالمي: في المجتمعات التي اختاروها أو لم يختاروها لأن هناك شريحة أو يعني الجيل الثالث لم يختر أن يكون فرنسياً يعني، هو ولد هناك، هو ولد هناك، الآباء والأجداد ربما اختاروا، أما هم هؤلاء قد وجدوا هنا فجأة، هم فرنسيون، في المدرسة فرنسيون، في الشارع فرنسيون، ولكن يكتشفون أحياناً أنهم فرنسيون يعني مختلفون عن الآخرين، وهذا يعني حقيقة يولد العديد من الأسئلة ويولد الكثير من الألم أيضاً، عندما تشعر أنك مواطن من الدرجة الثانية، فمن الطبيعي جداً أن تحتج عندما تشعر أن كرامتك أو الكرامة لا أتحدث عنها بالمعنى الأخلاقي إنما في الشغل وحقك في العمل وحقك في الحياة، هذا الحق مصادر، فمن الطبيعي جداً أن تحتج، أي كائن بشري يحتج، لكن هم يحتجون بهذه الطريقة العنيفة لظروف ربما يعني لأن حياتهم صعبة وقاسية.
أحمد علي الزين: صحيح، طيب بتقديرك يعني أيضاً هم ما بيتحمّلوا جزءاً من المسؤولية؟
الحبيب السالمي: يتحملون جزءاً من المسؤولية.
المغاربيون يبحثون عن الحرية في باريس
أحمد علي الزين: إنه فيه البعض جاء من بلدان أخرى ربما بحثاً عن الحرية، ربما بحثاً عن الأمان الاجتماعي، ربما بحثاً عن حرية التعبير، وقطعوا أميالاً وفي ناس غرقوا بالبحار ربما لأنهم جاؤوا كمان تهريب واستغلوا هذه المساحات من الحرية والفضاءات بطريقة كمان شوي عشوائية أحياناً، بتقديرك ما بيتحملوا كمان هم مسؤولية؟ جاؤوا وصندوق التخلف على ظهرهم بدهم يفرضوا شروطهم على مجتمع..؟
الحبيب السالمي: يتحملون طبعاً أنا أتفق معك تماماً. أنا أعتقد أن هؤلاء العرب يجب أن يندمجوا، ماذا أقصد بذلك يجب أن يتبنوا قيم الجمهورية الفرنسية، نحن نعيش في فرنسا، يعني هذا وطننا الثاني، هم وطنهم الأول. من الطبيعي جداً أن يحترموا قوانين البلد وخاصة أن يتبنوا قيم هذا البلد، وعلى فكرة هناك جزء كبير منهم قد تبنى هذه القيم واندمج وقد حقق نجاحات كبيرة جداً في كل المجالات، ولكن للأسف وسائل الإعلام اليمينية أحياناً تركز على الإخفاق أكثر مما تركز على النجاح، ولكن الصحيح هناك فئة لم تقم بما يجب أن تقوم به لكي تندمج حقاً في هذا المجتمع، لأنه هي فرصة كما ذكرت نحن نعيش في بلد متقدم، بلد تحكمه قوانين، أي شخص يستطيع إذا اشتغل وتبنى مجموعة معينة من القيم أن يذهب بعيداً، هذا أنا متأكد من ذلك، ولكن يجب أيضاً المشكلة هي أيضاً مع هؤلاء الناس هو أنهم يعيشون نوعاً من الارتباك على مستوى الهوية، لأن الغرب أيضاً لكي تندمج فيه بشكل طبيعي وسوي يجب أن تكون مثقفاً إلى حدّ ما، هم يأتون أغلبهم من الأرياف، من ثقافات مختلفة، ومن أوساط شعبية نسبياً يعني غير مثقفة وفقيرة إضافة إلى ذلك، فيفاجؤون بهذا الغرب المتطور والذي يرفضهم أحياناً، فبالتالي يتقوقعون حول أنفسهم..
أحمد علي الزين: بيصير عندهم ردة فعل.
الحبيب السالمي: وتصير ردة فعلهم أحياناً عنيفة، لأن الاندماج أيضاً في الغرب يجب أن لا نتحدث كمثقفين فقط ليس سهلاً يحتاج إلى مجهود وهذا المجهود..
أحمد علي الزين: مسار طويل.
الحبيب السالمي: بالضبط، وهم ليسوا قادرين على القيام بهذا المجهود الحقيقة.
الحب والحوار بين حضارتين
أحمد علي الزين: تلمّح بأحد رواياتك، يمكن بروائح ماري كلير عبر هالعلاقة بين شاب من أصول تونسية وسيدة.. وفتاة أو امرأة فرنسية، طبعاً يعني بلشت العلاقة علاقة صاخبة علاقة حب وقدّم التونسي الكثير من التنازلات بسلوكه حتى بثقافته حتى بحياته في بيته، بالمقابل منشوفها هي ما قدمت أي تنازل، بقيت هي فرنسية بسلوكها، طبعاً وتنتهي العلاقة بالخسران مثل كل العلاقات، يعني إذا بدنا نقرأ شي خلف السطور عادة الرواية ما بيقروا كتير خلف سطورها ولكن البعد الآخر بالرواية، بدك تقول إنه هاللقاء لقاء الحضارتين هذا الحوار ما نجح بين اثنين؟
الحبيب السالمي: لأ نجح بطريقة ما، لماذا نجح بطريقة ما؟ لأن علاقة الحب قد استمرت فترة زمنية معينة، وأنت تعرف وقد ذكرت هذا هي ليست علاقة زواج هناك فرق كبير إنما هي علاقة حب، والحب دائماً يعني يأتي كالريح ويذهب كالريح، يعني لا يدوم طويلاً، إذاً بمعنى ما هذه العلاقة قد نجحت. فيما يخص التنازلات أود أن أعود لهذه النقطة، هو قدم تنازلات لأنه يحبها، يجب أن نقرأ هذه الرواية دائماً في أفق علاقة الحب، حينما نحب شخصاً نقدم له كل ما يطلب.
أحمد علي الزين: لأ أنا مع التنازلات من أجل الحب.
الحبيب السالمي: هي أيضاً قدمت تنازلات لو لاحظنا. لكن صحيح في النهاية تظل هي بنت البلد، هو في النهاية دخيل. يعني وافد. وهي في النهاية إذا أردنا أن نتحدث عن تكافؤ فهي أكثر قوة منه، شي طبيعي، هي تعيش في محيطها الطبيعي، تعيش في ثقافتها. إذاً هي تتحرك بحرية أكثر. فمن الطبيعي هو أن يبذل مجهوداً أكبر. أما بخصوص هل القول أن استحالة الحوار بين الثقافات، أنا لا أقول أن الحوار بين الثقافات مستحيل لكنه صعب، وصعوبته لا يعني أن هذا شيئاً سيئاً، لا بالعكس، لكن الصعوبة هي من الحياة، الحياة صعبة أيضاً.
أحمد علي الزين: طيب الحبيب بتقول عن نفسك إنك أنت شخص مهووس بالواقع، يعني تروي وتكتب عن الحياة اليومية، عن.. ترصد تفاصيل، بتقديرك أديش بتسمح للخيال يخصّب هذا الواقع؟
الحبيب السالمي: كلمة واقع هي من أصعب الكلمات تفسيراً على فكرة، لأنه ما هو الواقع؟ ماذا نقصد بالواقع؟ الواقع الذي أعنيه أنا ليس هو هذا الواقع الموضوعي الملموس الذي يحيط بنا، هذا الواقع الشيئي، وإنما هو يتجاوز ذلك. لماذا؟ لأن هذا.. حتى لو افترضنا أن الواقع هو هذا الشيء الملموس الذي يحيط بنا، نحن لا نتمثله إلا من داخل ذواتنا، من خلال ذواتنا، إذاً حقيقة لا وجود لواقع خارج ذاتنا، في النهاية أين يبدأ الواقع وأين تنتهي الذات، كل ما نسميه واقع هو في الحقيقة تصور ذاتي لهذا الواقع.
أحمد علي الزين: يعني الشق الآخر من السؤال أديش أنت بتسمح لخيالك يشطح بعيداً في هيك متابعة الشخصية وفي تأليفها وفي إعادة تشكيلها؟ طبعاً الشخصيات أتت أيضاً من هذا الواقع.
الكتابة كذب ينبغي أن يكون صادقاً!!
الحبيب السالمي: هذه مشكلة كبيرة في الكتابة، ويقولها الفرنسيون بجملة جميلة جداً: مونتير فريه، الكتابة هي كذب، نحن نكذب في الحقيقة، ولكن يجب أن تكذب وأنت صادق، يعني هما كلمتان متناقضتان، وهنا صعوبة الكتابة، فيما يخص بناء الشخصيات أنا دائماً ليست لدي شخصية مبدئية في البداية لديها ملامح كاملة، يعني الشخصية تبدأ كفكرة في البداية ولكن تتجسد شيئاً فشيئاً كلما تقدمت في الرواية اكتسبت هذه الشخصية ملامح جديدة، وأحياناً لا أعرف ما هي هذه الملامح، يعني الكتابة هي التقدم يعني مثل الأعمى الذي يذهب يشعر أنه يجب أن يذهب في هذا الاتجاه ولكن ما يدري بالضبط لكن عندما يحيد عن طريقه يشعر أنه قد حاد.
أحمد علي الزين: حلوة هيدي المقاربة.
الحبيب السالمي: على الأقل هذا فهمي للكتابة، لا أخضع نفسي إطلاقاً لأي تصميم أو مخطط. وأعتقد إنه هون روعة الكتابة، لأنه عندما نخضع الكتابة لتخطيط مسبق فتصبح كما لو أنها إنشاء مدرسية، ثم أننا نحرم أنفسنا مما نسميه اللّقى، أجمل شيء في الكتابة هو اللّقى، يعني إنك أحياناً تجد أشياء وتعثر على أشياء تقول لم أفكر في هذا يا إلهي كم هو جميل!
أحمد علي الزين: يعني بتعم لك وتر على المستوى الشخصي قبل.
[فاصل إعلاني]
أحمد علي الزين: صريح وبسيط، سهل وغير معقد نص الحبيب السالمي، لا أحداث كبرى، شخصيات من صميم الحياة والواقع، وأمكنة ذات مساحة محددة واضحة وحميمة ولغة شفافة وبسيطة. قصص حب صاخبة تنتهي إلى الفراق، كما في روائح ماري كلير بين شاب تونسي مهاجر وفتاة فرنسية، حكايات عن المهاجرين في أحياء باريس الفقيرة، وسيرة عن مسنين في العلا تحت زيتونة دهرية يتذكرون ويفصحون عن مشاعرهم في غروب أيامهم يفصحون عن شهوات كانت وبهتت في أجسادهم النحيلة. الحبيب السالمي هو أيضاً هكذا واضح متصالح مع زمانه غير متطلب يعرف ما يريد وأهدافه ليست مستحيلة، وسعيه ذهاباً وإياباً بينه وبينه بين مكانين وحضارتين وثقافتين وذاكرتين يتجول الحبيب السالمي ويأتي في كل مرة بنص مليء باللقى والأحلام الصغيرة.
أحمد علي الزين: برواياتك ما في هالأحداث الكبيرة اللي منشوفها بأعمال أخرى، يعني أنت مش كاتب رواية الحدث، أنت ربما - إذا بسمح لنفسي قول - كاتب رواية التفاصيل.
الرواية فكر أكثر منها حدث
الحبيب السالمي: أنا لا أميل إلى أحداث كثيرة لأني أعتقد الرواية ليست كيس من الأحداث، الرواية ليست حكاية. كثير من الناس يتصورون أن الرواية هي حدوثة، صحيح الحدوتة هي مهمة لأنه لا رواية خارج الحدوثة بدون الحدوثة لا يمكن أن نبني رواية. لكن هذه الحدوثة يعني أضغط عليها كثيراً، أكتفي بجزء منها أي بما يكفيني لكي أشتغل على ما أسميه أنا الرواية، أو ما هو أساسي في الرواية، يعني أنا أعتقد أن الحدث في حد ذاته ليس مهماً بقدر ما هو مهم ما أستطيع أن أولده من هذا الحدث من أحاسيس ومن انطباعات ومن رؤى لأن الرواية في الحقيقة كما قلت ليست مجموعة أحداث متصلة ببعضها البعض، كثير ناس يتصورون أن الرواية هي حكاية، لأ مش صحيح، الرواية أعمق بكثير، الرواية فيها فكر وفيها تأمل، والدليل على ما أقول أنه عندما تقرأ رواية مثلاً "أوروبا الشرقية" اقرأ كونديرا، تقرأ مثلاً خفة الكائن الذي لا يحتمل، سترى أن هناك أحداث في فترة ما يتوقف السرد يعني يتوقف ويصير مثلاً ياخذ كلمة مثل كلمة "كيتش" مثلاً اللي هي تعني الشيء القديم، ويصير يحلل هذه الكلمة تاريخها وماذا تعني، ومتى ظهرت هذه الكلمة وما هي علاقتها بالكلمات الأخرى، يعني هناك فكر كونديرا يقوم بالبحث، يعني الرواية متصلة أيضاً بالبحث، هذا التقليد موجود في أوروبا الشرقية، موجود حتى عند تولستوي في روايته الحرب والسلم في نهاية الرواية بيار إذا لم تخني الذاكرة قبل أن يموت عندما يكون ملقى على ظهره ويتأمل النجوم يصير يعطي نظريات في التاريخ معنى التاريخ ومعنى الإنسان، فالرواية يعني لا بد برأيي أن تظل محافظة على هذا الجانب الفكري، لأن الرواية هي أيضاً أداة معرفة.
أحمد علي الزين: يقول جابر عصفور أن الآن هو زمن الرواية، طبعاً هو زمن قصير نسبياً إذا بدنا نقيس بنتاج الرواية في الغرب وفي العالم مش هالقد طويل، السؤال هو: لماذا جاءت الرواية متأخرة إلى هذا الحد؟
الحبيب السالمي: أعتقد هذا له علاقة بالفكر، كنت تتحدث عن الفكر، لأنه لم يكن لدينا فكر حديث، الرواية هي بنت الحداثة في الحقيقة، يعني انظر المجتمع الغربي، القرن التاسع عشر اللي أينعت فيه الرواية يعني في الغرب وفي روسيا وكذا، يعني هو قرن الحداثة، يعني ماذا أقصد بقرن الحداثة، قرن البرجوازية التي أرست قيماً جديدة حيث صار للفرد مكانة مهمة جداً في المجتمع، صارت الذات ذاتاً فردية لم تعد ذاتاً جماعية، والرواية هي بالأساس فن الذات الفردية، في العالم العربي لا يمكن أن نكتب رواية في مجتمع لا تزال فيه الذات جماعية، والرواية العربية ستتطور أكثر لأن المجتمع العربي تطور أكثر، ثم وعي الفرد بذاته مهم جداً، وهذا قد حدث في المجتمع العربي في السنوات الأخيرة، طبعاً لا يزال متخلفاً عما نراه في الغرب لكن هناك تطور كبير وهذا هو الذي برأيي أنشأ الرواية.
... 19.30
أحمد علي الزين: طيب بتقديرك الشعر.. الشعر أصلاً هو كمان تجلي من تجليات الإحساس بالفردية أو التعبير عن الذات كمان؟
الحبيب السالمي: أيضاً. أنا في الحقيقة لا أميل كثيراً إلى هذه النظريات أن هذا العصر عصر الرواية، هذا العصر هو عصر الشعر، يعني هو عصر الرواية وعصر الشعر، وعلى فكرة، الذين يقولون هذا العصر عصر الرواية هم بتقديري أو كما أفهمهم ولا أتحدث هنا عن الدكتور عصفور لأني لم أقرأ كتابه، لكن عما يشاع يعني، هذا الرأي شائع جداً، عندما يقولون الآن هو عصر الرواية لأنهم كانوا يتصورون أنه قبل.. العصور العربية هي عصر الشعر، وهذا خطأ برأيي، وقد أفاجئك هنا بأنه أيضاً العصور العربية القديمة يعني هي عصور نثر، ونثر هائل.
أحمد علي الزين: مليئة بالنثر.
الحبيب السالمي: وبالتالي كلمة أن الأمة.. العرب هم أمة شعر هذا الكلام لا معنى له إطلاقاً.. والجاحظ..
أحمد علي الزين: والمقامات..
الحبيب السالمي: والتوحيدي وابن المقفع يعني هؤلاء ناثرون كبار، ناثرون كبار، بالتالي العرب لم يكونوا شعراء فقط وإنما أيضاً كانوا ناثرين كبار.
أحمد علي الزين: يعني هذه المرحلة اللي كتب فيها النثر الكبير كانت يمكن مرحلة فيها يمكن الذاتي..
الحبيب السالمي: فيها عقل.
أحمد علي الزين: فيها عقل. يعني منرجع لجوابك يعني..
الحبيب السالمي: فيها عقل وفكر..
أحمد علي الزين: كان في نوع من الفردية آنذاك، كان في نوع من التعددية وتعددية الآراء على الأقل..
الحبيب السالمي: بالضبط، وكان فيه أجناس كثيرة كانت الحضارة العربية الإسلامية قد بدأت يعني تتشكل وبدأت تعطي حتى ثمارها ظهر الفكر وظهرت الفلسفة وظهرت العلوم فهذا يماشي النثر.
صوت أحمد علي الزين: أعود مؤقتاً إلى فوضاي القديمة، وأستسلم للكسل والخمول والتراخي، منذ وقت طويل لم تتح لي إمكانية أن أعيش وحيداً في البيت لأفعل ما أشاء ومتى أشاء بدون أن أشعر أن هناك من يراقبني. تمضي أيام الأسبوع الأولى بطيئة وهادئة، أقضي أغلب الوقت الذي لا أشتغل فيه في البيت، مزاجي رائق، ولا شيء يشوّش الذهن ويشغل البال، لا غضب، ولا توتر، لا كلام ولا نقاش ولا خصام، لا شيء سوى الصمت والهدوء، حتى فعل التذكر الذي أنخرط فيه أحياناً في مثل هذه الحالات لا أستسلم له خوفاً من أن يجرني إلى أحاسيس وأفكار قد تفسد علي خلوتي.
أحمد علي الزين: تقول أنت أيضاً أن الكتابة بشكل عام هي مغامرة وفعل حرية يعني هذه المغامرة اللي عم تقول فيها حضرتك شو كشفت أمامك ماذا رأيت؟ ماذا شاهدت؟ وأين أصبحت؟
الحبيب السالمي: شاهدت نفسي..
أحمد علي الزين: تعرفت على حالك أكثر؟
الحبيب السالمي: آه. أنا أعتقد أن الكتابة إن كانت لها غاية أساسية فهي أن يكتشف الكاتب ذاته، وباكتشافه ذاته، يكتشف الآخر، لأنه لا يمكن أن يكون وعينا بالآخر..
أحمد علي الزين: خارج وعينا..
الحبيب السالمي: خارج وعينا بالذات. اكتشفت نفسي والذات البشرية مملكة كاملة، صرت أيضاً أكثر ربما معرفة بما حولي، الكتابة هي أداة معرفة برأيي، يعني ليس النص الفلسفي فقط هو أداة معرفة، الكتابة أيضاً، القصيدة، طبعاً، لأنك عندما هي تساعدك على أن تغوص في أعماق نفسك، وبغوصك في أعماق نفسك يعني تصير على اتصال بشكل ما بالآخرين.
أحمد علي الزين: جميل، جميل، طيب بتقديرك أنت طبعاً اخترت باريس مكاناً مثل ما بتقول هي مكان للعيش وللكتابة، أصبحت وطناً ثانياً بالنسبة لك، لو لم تختر هذه المدينة كنت قدرت اكتشفت نفسك بالمقدار الذي اكتشفته فيه عبر هذه النصوص اللي قرأناها؟
الحبيب السالمي: لا أدري. ربما كتبت نصوصاً مختلفة، وبالتأكيد ليس ربما. لأن حياتي.. لأن الإنسان يكتب من حياته، وحياتي لو بقيت في تونس مثلاً أو عشت في مكان آخر لكانت تغيّرت حياتي التي أعيشها الآن، ولأن حياتي ستكون مختلفة من الطبيعي أو من المحتمل جداً أن تكون نصوصي مختلفة.
أحمد علي الزين: نعم. وربما يعني ربما أيضاً شعورك بانخفاض منسوب الحرية كمان يملي عليك أسئلة أخرى يمكن؟ أو يلجم النص عندك ما بيخلّيه ينفتح على احتمالاته؟
ماذا تعني الكتابة من باريس؟
الحبيب السالمي: صحيح، نقطة مهمة جداً. يعني أنا صرت أعيش في يعني في الحرية، أعيش في بلد ديمقراطي لدرجة أني نسيت هذه النعمة، ولكن هي في الحقيقة.. صحيح يعني، والواحد أحياناً عندما يسافر إلى بعض البلدان العربية وألتقي القراء ويفاجؤون بالجرأة في كتاباتي، يقولون لي: هل تكتب هذا لو عشت في بلد عربي آخر؟ أتصور سؤالهم مشروع، ولكني أيضاً لا أستطيع أن أجيب بدقة، لكن أكيد أن الحرية والعيش في مناخ تحكمه الحرية، العيش في مجتمع عقلاني أيضاً، أنك أنت في النهاية تعيش في مجتمع ردود فعلك تصير عقلانية، أعتقد أنه ساعدني بشكل ما، كيف؟ لا أدري. لأن هذه أشياء يعني تعيشها في جسدك تظل..
أحمد علي الزين: بالهواء..
الحبيب السالمي: في الهواء تتنفسها، لا تدري كيف تخرج، لأنها لا تتم بشكل ميكانيكي.
أحمد علي الزين: طيب كيف جاء خيارك أن تترك البلاد وتجيء لباريس؟
الحبيب السالمي: كنت حالماً كبيراً. صدقني يعني قد يبدو هذا الكلام الآن يعني بعيداً جداً عن الواقع، ولكن كنت حالماً، كنت أحب الأدب ولا زال على فكرة بشكل يعني كبير جداً. وكنت يعني أشعر أني لو بقيت في تونس لتزوجت ويعني وترهلت.. أردت أن أجدد حياتي، أردت أن أذهب إلى آفاق أخرى، طبعاً أنا ذهبت في البداية إلى الشرق إلى بغداد، ولكني بصراحة لم تعجبني الحياة كثيراً، شعرت أن هناك فرق كبير، بصراحة إيقاع الحياة يعني صدمني، لم تعجبني الحياة، أعجبتني المدينة، الألوان مختلفة، طبائع الناس مختلفة، فعدت إلى تونس، وبعد فترة أخرى يعني بعد فترة قصيرة قررت أن أذهب إلى أوروبا، وأوروبا بالنسبة لتونسي فرانكوفوني تعني فرنسا، وفرنسا تعني باريس بكل بساطة.

مقدم البرنامج: أحمد علي الزين
تاريخ الحلقة: الجمعة 21/5/2009
ضيف الحلقة: الحبيب السالمي (روائي)
أحمد علي الزين: هذا المشّاء موزع بين مطرحين، بين ذاكرتين، هنا وهناك كما يقول عن نفسه، هنا في باريس منذ حوالي ربع قرن، وهناك في العلا حيث ولد قرية من قرى القيروان في تونس، هو مغرم بالذهاب والإياب ولو في الخيال، هي الحياة على هذا النحو مجيء ورحيل. اختار هذا الفضاء الباريسي للعيش والكتابة. ففي هذه المدينة تختبر الذات وتكتشف ملامح جديدة لحضورك وتعرف معنى آخر لفرديتك وتكتشف الآخر أيضاً. باريس مختبر لامتحان الذات، لعلاقتها بالآخر، بالجماعة، بالذاكرة، بالحاضر، على كل حال هي ليست بحاجة لوصف أو مديح، هي مدينة تحتاجها لأنها تمنحك هذا الشعور بحضورك إنساناً ترى إلى ذاتك في مرآة الآخرين، وما أن تأتيها حتى تسلّمك لنفسك في فضائها الفسيح فتتدرب على الاكتشاف والاختلاف والإصغاء والتعدد.
السؤال الملح يتعلق بالديمقراطية
أحمد علي الزين: طبعاً أنت مقيم في باريس منذ سنوات. شو السؤال اللي بتطرحه على نفسك الآن كمثقف كاتب وروائي أمام المشهد العربي العام اللي نعيشه حالياً أو نشاهده وعم نعيش تفاصيله؟ ما هو السؤال الأكثر إلحاحاً اللي بتحسّه واللي بتفتكر فيه بين حين وآخر؟
الحبيب السالمي: والله السؤال الذي أطرحه دائماً يتعلق بالديمقراطية. بصدق يعني. يعني متى سنتبنى النهج الديمقراطي؟ لأني شخصياً لا أعتقد أن الديمقراطية هي الحل لكل شيء، ولكن الديمقراطية هي بداية كل الحلول. يعني لا نستطيع أن نبني شيئاً برأيي بدون الديمقراطية. قد نمر بمرحلة صعبة بعد إرساء الديمقراطي، قد نواجه مشكلات وهذا شيء طبيعي، لكن برأيي لا بد أن نمر عبر هذا الطريق، كل الناس مروا من هنا..
أحمد علي الزين: الطريق الوحيد للخلاص يمكن.
الحبيب السالمي: أعتقد، أعتقد، لا يجوز في بدايات الألف الثالث يعني أن تكون المنطقة العربية برمتها تقريباً خارج هذا السؤال الكبير اللي هو سؤال الديمقراطية.
أحمد علي الزين: حبيب السالمي التقيته هنا ليصطحبني إلى كتابه، إلى نصوصه، إلى زيتونته الدهرية، وإلى قريته ذهاباً وإياباً، إلى أسرار عبد الله واحدة من رواياته، إلى عشاق بيا، وروائح ماري كلير، إلى أحوال المهاجرين في ضواحي باريس، وإلى أحواله كاتباً وروائياً وإنساناً. طيب دائماً أوروبا تشهد هيك نوعاً من خلينا نسميها نوعاً من الاحتجاجات اللي تؤدي أحياناً وتوصل أحياناً للشغب الاحتجاج العنيف مثلما شهدت باريس في فترة، ويبدو وراء هذا الاحتجاج معظم الناس أو الغالبية هم من أصول عربية ومغربية وتونسية يعني من عالمنا، بتقديرك شو السر أن هودي هؤلاء هم بالواجهة دائماً حتى يقوموا بهذه الأعمال، أعمال الشغب أو الاحتجاج؟
الحبيب السالمي: هناك سبب بسيط وهو أنهم غير راضين عن حياتهم.
أحمد علي الزين: في المجتمعات اللي اختاروها.
الحبيب السالمي: في المجتمعات التي اختاروها أو لم يختاروها لأن هناك شريحة أو يعني الجيل الثالث لم يختر أن يكون فرنسياً يعني، هو ولد هناك، هو ولد هناك، الآباء والأجداد ربما اختاروا، أما هم هؤلاء قد وجدوا هنا فجأة، هم فرنسيون، في المدرسة فرنسيون، في الشارع فرنسيون، ولكن يكتشفون أحياناً أنهم فرنسيون يعني مختلفون عن الآخرين، وهذا يعني حقيقة يولد العديد من الأسئلة ويولد الكثير من الألم أيضاً، عندما تشعر أنك مواطن من الدرجة الثانية، فمن الطبيعي جداً أن تحتج عندما تشعر أن كرامتك أو الكرامة لا أتحدث عنها بالمعنى الأخلاقي إنما في الشغل وحقك في العمل وحقك في الحياة، هذا الحق مصادر، فمن الطبيعي جداً أن تحتج، أي كائن بشري يحتج، لكن هم يحتجون بهذه الطريقة العنيفة لظروف ربما يعني لأن حياتهم صعبة وقاسية.
أحمد علي الزين: صحيح، طيب بتقديرك يعني أيضاً هم ما بيتحمّلوا جزءاً من المسؤولية؟
الحبيب السالمي: يتحملون جزءاً من المسؤولية.
المغاربيون يبحثون عن الحرية في باريس
أحمد علي الزين: إنه فيه البعض جاء من بلدان أخرى ربما بحثاً عن الحرية، ربما بحثاً عن الأمان الاجتماعي، ربما بحثاً عن حرية التعبير، وقطعوا أميالاً وفي ناس غرقوا بالبحار ربما لأنهم جاؤوا كمان تهريب واستغلوا هذه المساحات من الحرية والفضاءات بطريقة كمان شوي عشوائية أحياناً، بتقديرك ما بيتحملوا كمان هم مسؤولية؟ جاؤوا وصندوق التخلف على ظهرهم بدهم يفرضوا شروطهم على مجتمع..؟
الحبيب السالمي: يتحملون طبعاً أنا أتفق معك تماماً. أنا أعتقد أن هؤلاء العرب يجب أن يندمجوا، ماذا أقصد بذلك يجب أن يتبنوا قيم الجمهورية الفرنسية، نحن نعيش في فرنسا، يعني هذا وطننا الثاني، هم وطنهم الأول. من الطبيعي جداً أن يحترموا قوانين البلد وخاصة أن يتبنوا قيم هذا البلد، وعلى فكرة هناك جزء كبير منهم قد تبنى هذه القيم واندمج وقد حقق نجاحات كبيرة جداً في كل المجالات، ولكن للأسف وسائل الإعلام اليمينية أحياناً تركز على الإخفاق أكثر مما تركز على النجاح، ولكن الصحيح هناك فئة لم تقم بما يجب أن تقوم به لكي تندمج حقاً في هذا المجتمع، لأنه هي فرصة كما ذكرت نحن نعيش في بلد متقدم، بلد تحكمه قوانين، أي شخص يستطيع إذا اشتغل وتبنى مجموعة معينة من القيم أن يذهب بعيداً، هذا أنا متأكد من ذلك، ولكن يجب أيضاً المشكلة هي أيضاً مع هؤلاء الناس هو أنهم يعيشون نوعاً من الارتباك على مستوى الهوية، لأن الغرب أيضاً لكي تندمج فيه بشكل طبيعي وسوي يجب أن تكون مثقفاً إلى حدّ ما، هم يأتون أغلبهم من الأرياف، من ثقافات مختلفة، ومن أوساط شعبية نسبياً يعني غير مثقفة وفقيرة إضافة إلى ذلك، فيفاجؤون بهذا الغرب المتطور والذي يرفضهم أحياناً، فبالتالي يتقوقعون حول أنفسهم..
أحمد علي الزين: بيصير عندهم ردة فعل.
الحبيب السالمي: وتصير ردة فعلهم أحياناً عنيفة، لأن الاندماج أيضاً في الغرب يجب أن لا نتحدث كمثقفين فقط ليس سهلاً يحتاج إلى مجهود وهذا المجهود..
أحمد علي الزين: مسار طويل.
الحبيب السالمي: بالضبط، وهم ليسوا قادرين على القيام بهذا المجهود الحقيقة.
الحب والحوار بين حضارتين
أحمد علي الزين: تلمّح بأحد رواياتك، يمكن بروائح ماري كلير عبر هالعلاقة بين شاب من أصول تونسية وسيدة.. وفتاة أو امرأة فرنسية، طبعاً يعني بلشت العلاقة علاقة صاخبة علاقة حب وقدّم التونسي الكثير من التنازلات بسلوكه حتى بثقافته حتى بحياته في بيته، بالمقابل منشوفها هي ما قدمت أي تنازل، بقيت هي فرنسية بسلوكها، طبعاً وتنتهي العلاقة بالخسران مثل كل العلاقات، يعني إذا بدنا نقرأ شي خلف السطور عادة الرواية ما بيقروا كتير خلف سطورها ولكن البعد الآخر بالرواية، بدك تقول إنه هاللقاء لقاء الحضارتين هذا الحوار ما نجح بين اثنين؟
الحبيب السالمي: لأ نجح بطريقة ما، لماذا نجح بطريقة ما؟ لأن علاقة الحب قد استمرت فترة زمنية معينة، وأنت تعرف وقد ذكرت هذا هي ليست علاقة زواج هناك فرق كبير إنما هي علاقة حب، والحب دائماً يعني يأتي كالريح ويذهب كالريح، يعني لا يدوم طويلاً، إذاً بمعنى ما هذه العلاقة قد نجحت. فيما يخص التنازلات أود أن أعود لهذه النقطة، هو قدم تنازلات لأنه يحبها، يجب أن نقرأ هذه الرواية دائماً في أفق علاقة الحب، حينما نحب شخصاً نقدم له كل ما يطلب.
أحمد علي الزين: لأ أنا مع التنازلات من أجل الحب.
الحبيب السالمي: هي أيضاً قدمت تنازلات لو لاحظنا. لكن صحيح في النهاية تظل هي بنت البلد، هو في النهاية دخيل. يعني وافد. وهي في النهاية إذا أردنا أن نتحدث عن تكافؤ فهي أكثر قوة منه، شي طبيعي، هي تعيش في محيطها الطبيعي، تعيش في ثقافتها. إذاً هي تتحرك بحرية أكثر. فمن الطبيعي هو أن يبذل مجهوداً أكبر. أما بخصوص هل القول أن استحالة الحوار بين الثقافات، أنا لا أقول أن الحوار بين الثقافات مستحيل لكنه صعب، وصعوبته لا يعني أن هذا شيئاً سيئاً، لا بالعكس، لكن الصعوبة هي من الحياة، الحياة صعبة أيضاً.
أحمد علي الزين: طيب الحبيب بتقول عن نفسك إنك أنت شخص مهووس بالواقع، يعني تروي وتكتب عن الحياة اليومية، عن.. ترصد تفاصيل، بتقديرك أديش بتسمح للخيال يخصّب هذا الواقع؟
الحبيب السالمي: كلمة واقع هي من أصعب الكلمات تفسيراً على فكرة، لأنه ما هو الواقع؟ ماذا نقصد بالواقع؟ الواقع الذي أعنيه أنا ليس هو هذا الواقع الموضوعي الملموس الذي يحيط بنا، هذا الواقع الشيئي، وإنما هو يتجاوز ذلك. لماذا؟ لأن هذا.. حتى لو افترضنا أن الواقع هو هذا الشيء الملموس الذي يحيط بنا، نحن لا نتمثله إلا من داخل ذواتنا، من خلال ذواتنا، إذاً حقيقة لا وجود لواقع خارج ذاتنا، في النهاية أين يبدأ الواقع وأين تنتهي الذات، كل ما نسميه واقع هو في الحقيقة تصور ذاتي لهذا الواقع.
أحمد علي الزين: يعني الشق الآخر من السؤال أديش أنت بتسمح لخيالك يشطح بعيداً في هيك متابعة الشخصية وفي تأليفها وفي إعادة تشكيلها؟ طبعاً الشخصيات أتت أيضاً من هذا الواقع.
الكتابة كذب ينبغي أن يكون صادقاً!!
الحبيب السالمي: هذه مشكلة كبيرة في الكتابة، ويقولها الفرنسيون بجملة جميلة جداً: مونتير فريه، الكتابة هي كذب، نحن نكذب في الحقيقة، ولكن يجب أن تكذب وأنت صادق، يعني هما كلمتان متناقضتان، وهنا صعوبة الكتابة، فيما يخص بناء الشخصيات أنا دائماً ليست لدي شخصية مبدئية في البداية لديها ملامح كاملة، يعني الشخصية تبدأ كفكرة في البداية ولكن تتجسد شيئاً فشيئاً كلما تقدمت في الرواية اكتسبت هذه الشخصية ملامح جديدة، وأحياناً لا أعرف ما هي هذه الملامح، يعني الكتابة هي التقدم يعني مثل الأعمى الذي يذهب يشعر أنه يجب أن يذهب في هذا الاتجاه ولكن ما يدري بالضبط لكن عندما يحيد عن طريقه يشعر أنه قد حاد.
أحمد علي الزين: حلوة هيدي المقاربة.
الحبيب السالمي: على الأقل هذا فهمي للكتابة، لا أخضع نفسي إطلاقاً لأي تصميم أو مخطط. وأعتقد إنه هون روعة الكتابة، لأنه عندما نخضع الكتابة لتخطيط مسبق فتصبح كما لو أنها إنشاء مدرسية، ثم أننا نحرم أنفسنا مما نسميه اللّقى، أجمل شيء في الكتابة هو اللّقى، يعني إنك أحياناً تجد أشياء وتعثر على أشياء تقول لم أفكر في هذا يا إلهي كم هو جميل!
أحمد علي الزين: يعني بتعم لك وتر على المستوى الشخصي قبل.
[فاصل إعلاني]
أحمد علي الزين: صريح وبسيط، سهل وغير معقد نص الحبيب السالمي، لا أحداث كبرى، شخصيات من صميم الحياة والواقع، وأمكنة ذات مساحة محددة واضحة وحميمة ولغة شفافة وبسيطة. قصص حب صاخبة تنتهي إلى الفراق، كما في روائح ماري كلير بين شاب تونسي مهاجر وفتاة فرنسية، حكايات عن المهاجرين في أحياء باريس الفقيرة، وسيرة عن مسنين في العلا تحت زيتونة دهرية يتذكرون ويفصحون عن مشاعرهم في غروب أيامهم يفصحون عن شهوات كانت وبهتت في أجسادهم النحيلة. الحبيب السالمي هو أيضاً هكذا واضح متصالح مع زمانه غير متطلب يعرف ما يريد وأهدافه ليست مستحيلة، وسعيه ذهاباً وإياباً بينه وبينه بين مكانين وحضارتين وثقافتين وذاكرتين يتجول الحبيب السالمي ويأتي في كل مرة بنص مليء باللقى والأحلام الصغيرة.
أحمد علي الزين: برواياتك ما في هالأحداث الكبيرة اللي منشوفها بأعمال أخرى، يعني أنت مش كاتب رواية الحدث، أنت ربما - إذا بسمح لنفسي قول - كاتب رواية التفاصيل.
الرواية فكر أكثر منها حدث
الحبيب السالمي: أنا لا أميل إلى أحداث كثيرة لأني أعتقد الرواية ليست كيس من الأحداث، الرواية ليست حكاية. كثير من الناس يتصورون أن الرواية هي حدوثة، صحيح الحدوتة هي مهمة لأنه لا رواية خارج الحدوثة بدون الحدوثة لا يمكن أن نبني رواية. لكن هذه الحدوثة يعني أضغط عليها كثيراً، أكتفي بجزء منها أي بما يكفيني لكي أشتغل على ما أسميه أنا الرواية، أو ما هو أساسي في الرواية، يعني أنا أعتقد أن الحدث في حد ذاته ليس مهماً بقدر ما هو مهم ما أستطيع أن أولده من هذا الحدث من أحاسيس ومن انطباعات ومن رؤى لأن الرواية في الحقيقة كما قلت ليست مجموعة أحداث متصلة ببعضها البعض، كثير ناس يتصورون أن الرواية هي حكاية، لأ مش صحيح، الرواية أعمق بكثير، الرواية فيها فكر وفيها تأمل، والدليل على ما أقول أنه عندما تقرأ رواية مثلاً "أوروبا الشرقية" اقرأ كونديرا، تقرأ مثلاً خفة الكائن الذي لا يحتمل، سترى أن هناك أحداث في فترة ما يتوقف السرد يعني يتوقف ويصير مثلاً ياخذ كلمة مثل كلمة "كيتش" مثلاً اللي هي تعني الشيء القديم، ويصير يحلل هذه الكلمة تاريخها وماذا تعني، ومتى ظهرت هذه الكلمة وما هي علاقتها بالكلمات الأخرى، يعني هناك فكر كونديرا يقوم بالبحث، يعني الرواية متصلة أيضاً بالبحث، هذا التقليد موجود في أوروبا الشرقية، موجود حتى عند تولستوي في روايته الحرب والسلم في نهاية الرواية بيار إذا لم تخني الذاكرة قبل أن يموت عندما يكون ملقى على ظهره ويتأمل النجوم يصير يعطي نظريات في التاريخ معنى التاريخ ومعنى الإنسان، فالرواية يعني لا بد برأيي أن تظل محافظة على هذا الجانب الفكري، لأن الرواية هي أيضاً أداة معرفة.
أحمد علي الزين: يقول جابر عصفور أن الآن هو زمن الرواية، طبعاً هو زمن قصير نسبياً إذا بدنا نقيس بنتاج الرواية في الغرب وفي العالم مش هالقد طويل، السؤال هو: لماذا جاءت الرواية متأخرة إلى هذا الحد؟
الحبيب السالمي: أعتقد هذا له علاقة بالفكر، كنت تتحدث عن الفكر، لأنه لم يكن لدينا فكر حديث، الرواية هي بنت الحداثة في الحقيقة، يعني انظر المجتمع الغربي، القرن التاسع عشر اللي أينعت فيه الرواية يعني في الغرب وفي روسيا وكذا، يعني هو قرن الحداثة، يعني ماذا أقصد بقرن الحداثة، قرن البرجوازية التي أرست قيماً جديدة حيث صار للفرد مكانة مهمة جداً في المجتمع، صارت الذات ذاتاً فردية لم تعد ذاتاً جماعية، والرواية هي بالأساس فن الذات الفردية، في العالم العربي لا يمكن أن نكتب رواية في مجتمع لا تزال فيه الذات جماعية، والرواية العربية ستتطور أكثر لأن المجتمع العربي تطور أكثر، ثم وعي الفرد بذاته مهم جداً، وهذا قد حدث في المجتمع العربي في السنوات الأخيرة، طبعاً لا يزال متخلفاً عما نراه في الغرب لكن هناك تطور كبير وهذا هو الذي برأيي أنشأ الرواية.
... 19.30
أحمد علي الزين: طيب بتقديرك الشعر.. الشعر أصلاً هو كمان تجلي من تجليات الإحساس بالفردية أو التعبير عن الذات كمان؟
الحبيب السالمي: أيضاً. أنا في الحقيقة لا أميل كثيراً إلى هذه النظريات أن هذا العصر عصر الرواية، هذا العصر هو عصر الشعر، يعني هو عصر الرواية وعصر الشعر، وعلى فكرة، الذين يقولون هذا العصر عصر الرواية هم بتقديري أو كما أفهمهم ولا أتحدث هنا عن الدكتور عصفور لأني لم أقرأ كتابه، لكن عما يشاع يعني، هذا الرأي شائع جداً، عندما يقولون الآن هو عصر الرواية لأنهم كانوا يتصورون أنه قبل.. العصور العربية هي عصر الشعر، وهذا خطأ برأيي، وقد أفاجئك هنا بأنه أيضاً العصور العربية القديمة يعني هي عصور نثر، ونثر هائل.
أحمد علي الزين: مليئة بالنثر.
الحبيب السالمي: وبالتالي كلمة أن الأمة.. العرب هم أمة شعر هذا الكلام لا معنى له إطلاقاً.. والجاحظ..
أحمد علي الزين: والمقامات..
الحبيب السالمي: والتوحيدي وابن المقفع يعني هؤلاء ناثرون كبار، ناثرون كبار، بالتالي العرب لم يكونوا شعراء فقط وإنما أيضاً كانوا ناثرين كبار.
أحمد علي الزين: يعني هذه المرحلة اللي كتب فيها النثر الكبير كانت يمكن مرحلة فيها يمكن الذاتي..
الحبيب السالمي: فيها عقل.
أحمد علي الزين: فيها عقل. يعني منرجع لجوابك يعني..
الحبيب السالمي: فيها عقل وفكر..
أحمد علي الزين: كان في نوع من الفردية آنذاك، كان في نوع من التعددية وتعددية الآراء على الأقل..
الحبيب السالمي: بالضبط، وكان فيه أجناس كثيرة كانت الحضارة العربية الإسلامية قد بدأت يعني تتشكل وبدأت تعطي حتى ثمارها ظهر الفكر وظهرت الفلسفة وظهرت العلوم فهذا يماشي النثر.
صوت أحمد علي الزين: أعود مؤقتاً إلى فوضاي القديمة، وأستسلم للكسل والخمول والتراخي، منذ وقت طويل لم تتح لي إمكانية أن أعيش وحيداً في البيت لأفعل ما أشاء ومتى أشاء بدون أن أشعر أن هناك من يراقبني. تمضي أيام الأسبوع الأولى بطيئة وهادئة، أقضي أغلب الوقت الذي لا أشتغل فيه في البيت، مزاجي رائق، ولا شيء يشوّش الذهن ويشغل البال، لا غضب، ولا توتر، لا كلام ولا نقاش ولا خصام، لا شيء سوى الصمت والهدوء، حتى فعل التذكر الذي أنخرط فيه أحياناً في مثل هذه الحالات لا أستسلم له خوفاً من أن يجرني إلى أحاسيس وأفكار قد تفسد علي خلوتي.
أحمد علي الزين: تقول أنت أيضاً أن الكتابة بشكل عام هي مغامرة وفعل حرية يعني هذه المغامرة اللي عم تقول فيها حضرتك شو كشفت أمامك ماذا رأيت؟ ماذا شاهدت؟ وأين أصبحت؟
الحبيب السالمي: شاهدت نفسي..
أحمد علي الزين: تعرفت على حالك أكثر؟
الحبيب السالمي: آه. أنا أعتقد أن الكتابة إن كانت لها غاية أساسية فهي أن يكتشف الكاتب ذاته، وباكتشافه ذاته، يكتشف الآخر، لأنه لا يمكن أن يكون وعينا بالآخر..
أحمد علي الزين: خارج وعينا..
الحبيب السالمي: خارج وعينا بالذات. اكتشفت نفسي والذات البشرية مملكة كاملة، صرت أيضاً أكثر ربما معرفة بما حولي، الكتابة هي أداة معرفة برأيي، يعني ليس النص الفلسفي فقط هو أداة معرفة، الكتابة أيضاً، القصيدة، طبعاً، لأنك عندما هي تساعدك على أن تغوص في أعماق نفسك، وبغوصك في أعماق نفسك يعني تصير على اتصال بشكل ما بالآخرين.
أحمد علي الزين: جميل، جميل، طيب بتقديرك أنت طبعاً اخترت باريس مكاناً مثل ما بتقول هي مكان للعيش وللكتابة، أصبحت وطناً ثانياً بالنسبة لك، لو لم تختر هذه المدينة كنت قدرت اكتشفت نفسك بالمقدار الذي اكتشفته فيه عبر هذه النصوص اللي قرأناها؟
الحبيب السالمي: لا أدري. ربما كتبت نصوصاً مختلفة، وبالتأكيد ليس ربما. لأن حياتي.. لأن الإنسان يكتب من حياته، وحياتي لو بقيت في تونس مثلاً أو عشت في مكان آخر لكانت تغيّرت حياتي التي أعيشها الآن، ولأن حياتي ستكون مختلفة من الطبيعي أو من المحتمل جداً أن تكون نصوصي مختلفة.
أحمد علي الزين: نعم. وربما يعني ربما أيضاً شعورك بانخفاض منسوب الحرية كمان يملي عليك أسئلة أخرى يمكن؟ أو يلجم النص عندك ما بيخلّيه ينفتح على احتمالاته؟
ماذا تعني الكتابة من باريس؟
الحبيب السالمي: صحيح، نقطة مهمة جداً. يعني أنا صرت أعيش في يعني في الحرية، أعيش في بلد ديمقراطي لدرجة أني نسيت هذه النعمة، ولكن هي في الحقيقة.. صحيح يعني، والواحد أحياناً عندما يسافر إلى بعض البلدان العربية وألتقي القراء ويفاجؤون بالجرأة في كتاباتي، يقولون لي: هل تكتب هذا لو عشت في بلد عربي آخر؟ أتصور سؤالهم مشروع، ولكني أيضاً لا أستطيع أن أجيب بدقة، لكن أكيد أن الحرية والعيش في مناخ تحكمه الحرية، العيش في مجتمع عقلاني أيضاً، أنك أنت في النهاية تعيش في مجتمع ردود فعلك تصير عقلانية، أعتقد أنه ساعدني بشكل ما، كيف؟ لا أدري. لأن هذه أشياء يعني تعيشها في جسدك تظل..
أحمد علي الزين: بالهواء..
الحبيب السالمي: في الهواء تتنفسها، لا تدري كيف تخرج، لأنها لا تتم بشكل ميكانيكي.
أحمد علي الزين: طيب كيف جاء خيارك أن تترك البلاد وتجيء لباريس؟
الحبيب السالمي: كنت حالماً كبيراً. صدقني يعني قد يبدو هذا الكلام الآن يعني بعيداً جداً عن الواقع، ولكن كنت حالماً، كنت أحب الأدب ولا زال على فكرة بشكل يعني كبير جداً. وكنت يعني أشعر أني لو بقيت في تونس لتزوجت ويعني وترهلت.. أردت أن أجدد حياتي، أردت أن أذهب إلى آفاق أخرى، طبعاً أنا ذهبت في البداية إلى الشرق إلى بغداد، ولكني بصراحة لم تعجبني الحياة كثيراً، شعرت أن هناك فرق كبير، بصراحة إيقاع الحياة يعني صدمني، لم تعجبني الحياة، أعجبتني المدينة، الألوان مختلفة، طبائع الناس مختلفة، فعدت إلى تونس، وبعد فترة أخرى يعني بعد فترة قصيرة قررت أن أذهب إلى أوروبا، وأوروبا بالنسبة لتونسي فرانكوفوني تعني فرنسا، وفرنسا تعني باريس بكل بساطة.

0 commentaires:
Enregistrer un commentaire